فصل: تفسير الآية رقم (24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (24):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [24].
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أي: بدعوى النبوة والوحي: {فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} قال ابن كثير: أي: لو افتريت عليه كذباً كما يزعم هؤلاء الجاهلون، يختم على قلبك، أي: يطبع على قلبك ويسلبك ما كان آتاك من القرآن. كقوله جل جلاله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44- 47]، أي: لانتقمنا منه أشد الانتقام، وما قدر أحد من الناس أن يحجز عنه. انتهى.
وهذا تفسير بالأشباه، والنظائر من الآيات، يؤثره كثير من الأئمة، ما وجد إليه سبيلاً. فإن التنزيل يفسر بعضه بعضاً، ومآل الآية على هذا المعنى، كما أوضحه أبو السعود، هو الاستشهاد على بطلان ما قالوا، ببيان أنه عليه السلام لو افترى على الله تعالى، لمنعه من ذلك قطعاً، فختم على قلبه بحيث لم يخطر بباله معنى من معانيه، ولم ينطق بحرف من حروفه. وحيث لم يكن الأمر كذلك. بل تواتر الوحي حيناً فحيناً، تبين أنه من عند الله تعالى.
وقال الزمخشري: فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم، حتى تفتري عليه الكذب، فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله، إلا من كان في مثل حالهم. وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله، وإنه في البعد مثل الشرك بالله، والدخول في الجملة المختوم على قلوبهم. ومثل هذا أن يخوّن بعض الأمناء فيقول: لعل الله خذلني. لعل الله أعمى قلبي. وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب، وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله، والتنبيه على أنه رُكب من تخوينه أمر عظيم. انتهى.
قال الشهاب: فمعناه إن يشأ الله يختم على قلبك كما فعل بهم. فهو تسلية له صلوات الله عليه، وتذكير لإحسانه إليه وإكرامه، ليشكر به ويترحم على من ختم على قلبه، فاستحق غضب ربه، ولولا ذلك ما اجترأ على نسبته لما ذكر، ولذا أتى بأن، في موضع لو، إرخاءً للعنان، وتلميحاً للبرهان. على أنه لا يتصور وصفه بما ذكروه. فالتفريع بالنظر للمعنى المكني عنه، وحاصله أنهم، اجترؤوا على هذا المحال؛ لأنه مطبوعون على الضلال. انتهى: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} استئناف مقرر لنفي الافتراء عما يقوله صلى الله عليه وسلم، فإنه لو كان مفترى لمحقه؛ إذ من سنته تعالى محو الباطل وإثبات الحق بوحيه.
فليس: يمح، مجزوماً بالعطف على الجزاء، بل معطوف على مجموع الجملة، والكلام السابق، ولذا أعيد لفظ الجلالة، ورفع يحق. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون عدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن، وبقضائه الذي لا مرد له من نصرتك عليهم. إن الله عليم بما في صدرك وصدورهم، فيجري الأمر على حسب ذلك.

.تفسير الآية رقم (25):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [25].
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} أي: يقبل رجوعه إذا راجع توحيد الله وطاعته، من بعد كفره: {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} أي: معاصيه التي تاب منها: {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} أي: من خير، أو شر، وهو مجازيكم عليه.

.تفسير الآيات (26- 27):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [26- 27].
{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: يستجيب لهم. فحذف اللام كما حذف في قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ} [المطففين: 3]، أي: يثيبهم على طاعتهم: {وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} أي: على ثوابهم، منةً منه وطولاً: {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} أي: تجاوزوا الحدّ الذي حدّه لهم إلى غيره، بركوبهم ما حظره عليهم؛ لأن الغنى مبطرةً مأشرة: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَاْن لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6- 7]، {وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء} أي: ولكن ينزل من رزقه ما يشاؤه بقدرٍ، لكفايتهم: {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} قال الزمخشري: أي: يعرف ما يؤول إليه أحوالهم، فيقدّر لهم ما هو أصلح لهم، وأقرب إلى جمع شملهم، فيُفقر ويُغني، ويمنع ويعطي، ويقبض ويبسط، كما توجبه الحكمة الربانية، ولو أغناهم جميعاً لبلغوا، ولو أفقرهم لهلكوا.

.تفسير الآية رقم (28):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [28].
{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} أي: بركات الغيث، ومنافعه، وآثاره من الخصب، والرخاء: {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} أي: الذي يتولى الخلق بإحسانه، والمحمود على أياديه عندهم.

.تفسير الآية رقم (29):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ} [29].
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ} أي: حشرهم يوم القيامة: {إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ} أي: متمكن منه، لا يتعذر عليه وإن تفرقت أوصالهم.
تنبيه:
ذهب بعض الباحثين في آيات القرآن الفلكية، والعوالم العلْوية إلى معنى آخر في هذه الآية. وعبارته: يفهم من الآية أن الله تعالى خلق السماوات دواب، ويستدل من قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [النور: 45]، أن هذه الدواب ليست ملائكة كما قال المفسرون، بل حيوانات كحيوانات الأرض، ولا يبعد أن يكون بينهم حيوان عاقل كالْإِنْسَاْن، ويلزم لحياة تلك الحيوانات أن يكون في السماوات نباتات، وأشجار، وبحار، وأنهار كما تحقق في هذا العصر لدى علماء الرصد.
ثم قال: لعمري، إن هذه الآية التي نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم قبل ألف وثلاثمائة وعشرين سنة، لآية لأهل هذا العصر وأيّة آية، آية لأهل العلم، والفلسفة الذين يبذلون الأموال، والأرواح بلا حد، ولا حساب، ليتوصلوا إلى معرفة سر من أسرار الكائنات، ومع هذا الجد العنيف والجهد المتواصل منذ ثلاثمائة سنة، لم يتوصلوا إلا بالظن إلى ما أنبأت به هذه الآية. وجل ما توصلوا إليه بالبرهان العقلي، إن الأرض أصغر من الشمس، وأنها تدور حولها، وإن الكواكب السيارات كريّات، وإن النجوم الثوابت شموس، ولها سيارات تدور حولها، ولما ثبت لديهم جميعاً وجود الماء والهواء، وحصول الصيف والشتاء في هذه السيارات، ظنوا أنه يوجد فيها عالم كعالم الأرض.
وبدأ البعض منهم يفكرون بإيجاد الوسائل للمخابرة بالكهربائية مع سكان المريخ الذي هو أقرب السيارات إلينا، وليس ذلك بالمستحيل فنّاً. ويستدل على إمكانيته من آخر الآية نفسها وهو قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ} فلا يبعد أن يتخابرا ويجتمعا فكراً، إذا لم يجتمعا جسماً. فلينظر الفلكيون إلى ما حوته هذه الآية المكنوزة في القرآن. وليعلم المعجبون منا بالعلوم العصرية، الضاربون صفحاً عن العلوم الإسلامية، ما في كتاب الله من الحكمة والبيان. وقال أيضاً: لا يخفى أن القرآن العظيم نزل لبيان الحق وتعليم الدين، أولاً وبالذات. لكن، تمهيداً لهذا السبيل، أتى بشذرات من العلوم الفلكية والطبيعية، وصرف بصائر الناس إلى التفكير في خلق السماوات والأرض، وما هن عليه من الإبداع، فوجه أبصارهم إلى التأمل في خلق الْإِنْسَاْن، وما عليه من التركيب العجيب، إلى غير ذلك من الأمور الفلكية والطبيعية في أكثر من ثلاثمائة آية.
فالمفسرون رحمهم الله، لما فسروا هذه الآيات، شرحوا معانيها على مقدار محيط علمهم بالعلوم الفلكية والطبيعية، ولا يخفى ما كانت عليه هذه الآلات في زمنهم من النقصان، لاسيما علم الفلك. فهم معذورون إذا لم يفهموا معاني هذه الآيات التي تحيّر عقول فلاسفة هذا العصر، المتضلعين بالعلوم العقلية. لذلك لم يفسروا هذه الآيات حق تفسيرها، بل أوّلوها وصرفوا معانيها عن الحقيقة إلى المجاز أو الكناية. انتهى كلامه.
وقال عالم فلكي أيضاً: يقول العلماء إنه من المحقق أن هذه السيارات مسكونة بحيوانات تشبه الحيوانات التي على أرضنا هذه، ويكون كل كوكب منها أرضاً بالنسبة لحيواناته، وباقي الكواكب سماوات بالنسبة لها.
قال: والظاهر أن القول بوجود الحيوانات في هذه الكواكب صحيح؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} ويقول: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29].

.تفسير الآية رقم (30):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [30].
{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أي: فبسبب معاصيكم، وما اجترمتم من الآثام: {وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} أي: من الذنوب فلا يعاقب عليها.

.تفسير الآية رقم (31):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [31].
{وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} أي: بمعجزين ربكم إن أراد عقوبتكم؛ لأنكم في قبضة تصرّفه: {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} أي: إذا أراد عذابكم. فاتقوه واخشوه.

.تفسير الآيات (32- 33):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [32- 33].
{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ} أي: السفن الجارية: {فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} أي: الجبال: {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} أي: فيبقين ثوابت على ظهر البحر: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: في جري هذه الجواري في البحر، بتسخير الله تعالى الريح لجريها: {لَآيَاتٍ} أي: لعبرة، وعظة، وحجة بينة على القدرة الأزلية: {لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي: لكل مؤمن. وإنما آثر وصفيه المذكورين، تذكيراً بما ينبغي أن يكون المؤمن عليه من وفرة الصبر وكثرة الشكر؛ إذ لا يكمل الإيمان بدونهما. والإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر.

.تفسير الآيات (34- 35):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} [34- 35].
{أَوْ يُوبِقْهُنَّ} أي: أو يهلكهن بالغرق: {بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} وقوله تعالى: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} عطف على علة مقدرة مثل لينتقم منهم: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} أي: يخاصمون الرسول في آياته على توحيده أنهم ما لهم من محيد عن عذابه.

.تفسير الآيات (36- 38):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [36- 38].
{فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ} أي: مما زين للناس حبه من الشهوات: {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: فهو متاع لكم، تتمتعون به في الدنيا، وليس من الآخرة: {وَمَا عِندَ اللَّهِ} أي: من ثوابه الأخروي: {خَيْرٌ وَأَبْقَى} وذلك لخلوصه عن الشوائب ودوامه: {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي: في أمورهم، وقيامهم بأسبابهم: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} أي: يصفحون عمن أساء إليهم: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} أي حينما دعاهم إلى توحيده، والبراءة من عبادة غيره: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} أي: لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه، وذلك من فرط تدبّرهم وتيقظهم، وصدق تآخيهم في إيمانهم وتحابّهم في الله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي: فيؤدّون ما فرض عليهم من الحقوق لأهلها، من زكاة ونفقة. وما ندبوا إليه من مواساة وصدقة ومعونة.

.تفسير الآية رقم (39):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} [39].
{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} أي: بالعدالة. احترازاً عن الذلة والانظلام، لكونهم في مقام الاستقامة، قائمين بالحق والعدل الذي ظلّه في نفوسهم. قال القاشاني. وقال ابن جرير: اختلف أهل التأويل في الباغي الذي حمد تعالى ذكره، المنتصر منه بعد بغيه عليه. فقال بعضهم: هو المشرك إذا بغى على المسلم. وقال آخرون: بل هو كل باغٍ بغى فحمد المنتصر منه. وإليه ذهب السدي حيث قال: ينتصرون ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا.
قال ابن جرير: وهذا القول الثاني أولى من ذلك بالصواب؛ لأن الله لم يخصص من ذلك معنى دون معنى. بل حمد كل منتصر بحقٍّ ممن بغى عليه.. فإن قال قائل: وما في الانتصار من المدح؟ قيل: إن في إقامة الظالم على سبيل الحق، وعقوبته بما هو له أهل، تقويماً له. وفي ذلك أعظم المدح. انتهى. وكذا قال الزمخشري.
فإن قلت: أهم محمودون في الانتصار؟
قلت: نعم؛ لأن من أخذ حقه غير متعد حد الله وما أمر به فلم يسرف في القتل، إن كان وليّ دم، أو ردّ على سفيه محاماة على عرضه وردعاً له، فهو مطيع، وكل مطيع محمود. قال النَّخَعِي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق.
ثم أشار تعالى إلى أن الانتصار يجب أن يكون مقيداً بالمثل، بقوله: